حكايا

سردية الذئب: سؤال الضحية والمعتدي في قصة ليلى الحمراء


سردية الذئب: سؤال الضحية والمعتدي في قصة ليلى الحمراء
من الضحية في قصة ليلى الحمراء والذئب؟
لؤي وتد

قضية تمثيل الحقيقة ومحاولة الوصول إليها تولّد مفاهيم معقدة ومختلفة بين مجالات البحث والفكر المختلفة التي تتعامل معها. مقارنة مع دراسة علوم التاريخ والفلسفة، فإن مفهوم الحقيقة في ثقافة الطفل هو مفهوم مرن وديناميكي وأحيانًا كوميدي.
قصة ليلى الحمراء الشعبية هي مثال رائع على ذلك، كونها تعبر عن أوضح مفاهيم التفرقة بين الضحية والمُعتدي عليها، لهذا يمكننا دراسة التغييرات التي طرأت على القصة وكيف أصبحت رمزًا لهذه التغييرات في بلورة وإعادة صياغة القوالب الأخلاقية على مدار القرون الأخيرة. في سياق سؤال تمثيل الحقيقة، يمكننا أن نسأل ما هي الحقيقة في قصة ذات الرداء الأحمر؟ من هي الضحية "الحقيقية" في القصة، وهل من الناحية المعرفية، يمكننا بالفعل الإجابة عن هذا السؤال بطريقة حتمية؟ حسنًا، الإجابة عن هذا السؤال تعتمد على الفترة والسياق الذي نسأل عنه.
حتى نهاية القرن العشرين، لم يتم تقديم أي استئناف على امكانية كون ليلى الحمراء هي ضحية القصة. ولكن اليوم، نجد إجابات أخرى جديدة والمزيد من الإصدارات التي تمنح صوتًا لسردية الذئب، بل وتجعله أحيانًا الراوي للقصة. توصف هذه الإصدارات على أنها إصدارات تقلب الأدوار بين الضحية والمُعتدي، ولكن في معظم هذه القصص تكون رواية الذئب هي رواية مشكوك فيها منذ البداية، لسبب بسيط جدًا، وهو أننا كبرنا على أن شخصية الذئب هي شخصية تُعرف باحتيالها ودهائها في الأدب.
هذه الرواية من وجهة نظر مختلفة، أو ما أسميه هنا "سردية" (Narative) مختلفة، توصف بأنها تفسير لجانب معين من الحبكة، يتشكل من زاوية نظر مختلفة. في السياق التاريخي للسردية، في جوهر كل "سرد" هناك "ذاكرة جماعية" (Halbwachs, 1992)، أي ذكرى لا تعكس بالضرورة الحقيقة، بل تعكس حق المجموعة الراوية لها بالوجود. في بعض الأحيان، يتم التعامل مع الذاكرة الجماعية من طرف المجموعة المؤمنة بها على أنها حقيقة مطلقة وحتمية. بما أن معظمنا ترعرعنا على قصة كون ليلى الحمراء هي الضحية في القصة، فنحن نتعامل مع سردية الذئب على أنها كاذبة وافترائية بشكل مطلق.
تغيّرت سردية الذئب كثيرًا في العقود الأخيرة، ويمكننا مثلًا إيجاد أبرزها في كتاب فوروارد وكوهين من عام 2005، باسم: قصة الذئب أو ماذا حدث حقًا مع ليلى الحمراء (What Really Happened to Little Red Riding Hood The Wolf's Story)، والتي تروي القصة من وجهة نظر الذئب، بأنه يزور الجدة أسبوعياً لمساعدتها في الأعمال المنزلية.

صياغات فلسطينية

في صيغة مسرحية فلسطينية للقصة لمسرح الروّاد، بعنوان "كل الحق ع الذيب" من إعداد وإخراج مسرحي للد. عبد الفتاح أبو السرور من عام 2009، تتم محاكمة الذئب بتهمة افتراسه الجدة وهو يحاول طيلة المسرحية إثبات براءته. يتمكّن الذئب من هذا بواسطة التشكيك في الشهادات المتناقضة لضحاياه وبسبب ظهور الجدة في نهاية المحاكمة. عمليًا، المسرحية تسخر من ادعاءات ليلى وتظهر أن الادعاءات ضد الذئب هي ادعاءات كاذبة متناقضة.
كذلك في قصة "موعد مع الذئب" لميسون أسدي من عام 2010، يتم اتهام الذئب بكونه شريرًا، وهو بدوره يخلق سردية ذئب جديدة تقلب صورته من صورة ذئب شرير، إلى ذئب بطل.

في "موعد مع الذئب" يظهر الذئب أول مرة للطفلة سلمى عندما تجد نفسها في ساعة ضيق حين "تعثّرت ووقعت بين الصخور، فسال دم كثير.. بكت ولم تستطع الوقوف أو المسير". عندها يظهر الذئب من بين الأشجار، و"يبدو عليه الوقار"، بالرغم من عرضه كحيوان مفترس ومخيف، حيث أن "عينه بيضاء كالجليد وأنيابه حادة كالحديد". يقترب الذئب بهدوء وخفة إلى سلمى ويسألها "ببراءة" ما بها. عندها يقترح عليها لعق جرحها حتى يطيب. لا يكتفي الذئب بلعق جرح الطفلة، بل كذلك "لامس ذيله خدّها وأنفها.. ودغدغها". هذا اللقاء الأولّي بين الطفلة والذئب يوصف كلقاء لطيف، وتقترح الباحثة كلارا سروجي- شجراوي في تحليلها للنص، أن هذا اللقاء مفعم بالرموز الجنسية.

عندما تخاف الطفلة من الذئب وتتهمه بكونه قد يكون شريرًا ويخطط لالتهامها كما فعل مع ليلى الحمراء، يبدأ الذئب بالاعتراض على تمثيله كحيوان شرير، ويحكي للطفلة سلمى عن صورته الإيجابية في الأدب: يبدأ من قصة النبي يوسف الذي رماه أخوته في البئر واتهموا الذئب، ثم ينتقل إلى قصة الذئبة لا لوبا، ذئبة كابيتولينا، التي أنقذت التوأمين رومولوس ورموس وأرضعتهم، وطبعًا يضيف قصة ماوكلي في كتاب الأدغال الذي ترعرع في مجتمع ذئاب.
بعد لحظات، ينظر الذئب إلى السماء ويقول لسلمى إنّ الوقت قد حان لأنّ الشمس تغرب ويجب أن تعود إلى المنزل. ورغم أنّ سلمى تطلب سماع المزيد عن التاريخ الثقافي للذئاب، إلا أن الذئب لا يوافقها ويدّعي أن الأوان قد فات وأنه سيواصل القصة في لقائهما القادم.
أي أنه في لقاء واحد مع الطفلة، تمكّن الذئب من جعل سلمى تطوّر اشتياقًا وحاجة للقائه مجددًا، تمامًا كما وعدت شهرزاد الملك شهريار بمواصلة قصتها في الليلة التالية. أي في تبادل أدوار جندري عن إطار "ألف ليلة وليلة"، يحصل الذئب بتمثيل شهرزادي، على حريته وبراءته من سلمى الصغيرة بمساعدة قصة. شهريار هذه الثنائية هي في الواقع الفتاة الصغيرة سلمى، التي يمكنها في أي لحظة استدعاء القرويين لإنقاذها من الذئب "الشرير"، لكنها لا تفعل ذلك، لأنها تريد الاستماع إلى المزيد من القصص.
الإشارة إلى "ألف ليلة وليلة" في هذه القصة ليست عبثية، بل تهدف إلى ملاءمة ومقارنة الموقف الذي وقعت فيه شهرزاد لموقف الذئب. أي أنّ الذئب خاف على حياته عندما رأى الفتاة، كما خافت شهرزاد على حياتها أمام الملك شهريار. دفع هذا التخوف الذئب وشهرزاد للبحث عن مخرج من المأزق، ووجدا السردية الإيجابية أداة لتبرئة موقفيهما وإنقاذ حياتيهما. هذا يعني أنه حتى في هذه القصة، لا يزال الذئب يمثل الشرير، لكنه يحاول إيجاد قناة تواصل مع الطرف الآخر لينقذ نفسه من قدره المحتوم.
طبعًا، تجدر الإشارة إلى أنه في هذه القصة بالتحديد، لا تحمل ذات الرداء الأحمر اسم ليلى، وهو الاسم المألوف للبطلة في الصياغات العربية للحكاية، ولكن اسم سلمى. يرتبط هذا الاسم مباشرة بمعانٍ أخرى مثل السلام والصحة في اللغة العربية. في الواقع، في هذه الصيغة من القصة الشعبية، نرى علاقة ودية ومتضامنة بين الفتاة والذئب.

في الكاريكاتير

يظهر قلب الأدوار هذا عادةً كأداة نقدية في يد الأدباء والفنانين؛ فمثلا، نجده كذلك في رسومات الكاريكاتير التي تستعمل صيغة القصة كأداة لنقد فكرة اتهام الضحية في قضايا التحرّش. فمثلًا، في كاريكاتير الفنان علاء الدين الأسقف تحت عنوان "ليلى الحمراء والذئب والمجتمع"، نجد المجتمع يقتنع بسردية الذئب ويدافع عن تحرشه بليلى عندما يدّعي بأنها كانت "في الغابة وبدون محرم ولابسة أحمر وقصير وضيق". وهكذا تصبح القصة رمزية لكافة قضايا التحرش والمنطق المأساوي الذي يعتمد عليه تذنيب الضحية.

لكن توظيف القصة في النقد، لا يأتي لأهداف من هذا النوع فقط، بل قد نجده كذلك يأتي في نقد قوانين حماية الطبيعة وتحديد مناطق صيد الحيوانات البرية. فهناك العديد من الفنانين الذين وظّفوا القصة في هذا السياق، مثل رسام الكاريكاتير البرازيلي مارسيلو رامبازو، الذي يقترح أنّ قوانين حماية الطبيعة قد تؤدّي لمنع الصياد من إنقاذ الطفلة من أيدي الذئاب. أو في رسم نشرته مجلة "FreeThePeople" التي تدعم الأيديولوجيا التحررية الليبرتارية الأمريكية، فيه كذلك نجد الذئب يتمكّن من الطفلة بسبب القوانين ذاتها.

الذئب الجيد // مارسيلو رامبازو

FreeThePeople
بالمناسبة، نجد صورة شبيهة تنتشر لدفاع الطفلة عن الذئب بهدف حماية الحيوانات المهدّدة بالانقراض، تنشرها جمعية WWF - الصندوق العالمي للطبيعة.

WWF - الصندوق العالمي للطبيعة

خلاصة

عمليًا، كافة هذه الإصدارات هي مجرد مثال على الاتجاه الحالي لقلب الأدوار في قصة شعبية واحدة، ولكن يمكن رؤية هذا التوجه في كافة أنحاء ثقافة الأطفال وفي جميع أشكالها الإعلامية المختلفة، من المسرح إلى الأدب والكوميديا والسينما والألعاب وغيرها. وفي النهاية، يبقى لنا أن نواصل السؤال: مَن الضحية في قصة ليلى الحمراء والذئب؟

احالات

Halbwachs, M. (1992). On collective memory. University of Chicago Press.‏
أبو سرور، ع. (2009). كل الحق عالذيب. مخيم عايدة: مسرح القصبة.
أسدي، م. (2010). موعد مع الذئب. كفر قرع: دار الهدى زحالقة.

تعليقات (0)

    إضافة تعليق