
اخترنا لك
عهدُ الأصدقاء: ثقافة الأطفال بين الرمزية والفلسفة
اخترنا لك: مسلسلات كرتونية
عهدُ الأصدقاء هو مسلسل تلفزيوني كرتوني من إنتاج شركة “Nippon Animation” اليابانية، ومن إخراج كوزو كوزوبا عام 1995. تُرجمَ اسم المسلسل حرفيًا من اليابانية إلى الإنجليزية "سماءُ روميو الزرقاء"، بينما كان الاسم الإنجليزي الرسمي الذي أطلقته شركة الإنتاج على المسلسل "روميو والأخوة السود". عُرف المسلسل بالعربية باسم "عهدُ الأصدقاء" وبالفلبينية "أحلام روميو البسيطة".
اقتُبست قصة المسلسل من رواية "الأخوان السود" (بالألمانية Die schwarzen Brüder) للمؤلفة الألمانية ليزا تيتزنر، والتي رأت النور عام 1941. بينما تختلف الرواية عن المسلسل الكرتوني باسمها وباختلافات محدودة جدًا لأسماء الشخصيات، تتشابه القصة العامة في الرواية مع قصة المسلسل وتكاد القصتان أن تكونا متطابقتين، من تسلسل الأحداث والحبكة إلى وصف الأماكن والمحافظة على التصويرات الرمزية للطبيعة.
تمت دبلجة المسلسل إلى العربية الفصحى في مركز الزهرة السوري التابع لقناة سبيس تون، وعُرض لأول مرة على تلفزيون قطر. بلغ عدد حلقات المسلسل المدبلجة 33 حلقة.
تدور أحداث القصة حول الصبي روميو، الذي يعيش مع عائلته الفقيرة في قرية سويسرية. تعتاش عائلة روميو نفسها على محاصيل الزراعة التي تنبت في حقولهم كل عام، ومع الجفاف الشديد الذي أعاق موسم الحصاد في القرية، يشتدُّ الفقر بالعائلة أكثر. وليزدادَ الحالُ سوءًا، يأتي إلى القرية شخصٌ يلقّب بـ"الرجل الغراب"، الذي يقوم باستئجار الأطفال من عائلاتهم للعمل في مدينة ميلانو الإيطالية خلال فصل الربيع.
يُعجب الرجل الغراب بالبنية الجسدية القوية التي يتمتع بها "روميو"، ويحاول بشتى الوسائل أن يقنعه بالانضمام إليه مقابل عدد زهيد من القطع النقدية، ومن محاولاته أن يقوم بحرق المزرعة الخاصة بوالد روميو، وهو مصدر رزقهم الوحيد، فيقوم روميو بتأجير نفسه للرجل الغراب وإعطاء عائلته قطع النقود، يودّعهم ويسافر إلى إيطاليا مع الرجل الغراب.
في مدينة ميلانو، يلتقي روميو مع صبيان آخرين في نفس عمره تقريبًا، الذين قام الرجل الغراب باستئجارهم وليتم تأجيرهم لاحقًا لمنظفي مداخن آخرين في المدينة. يفترق الصبيّان حيث يُأخذُ كلٌّ منهم للعيش في أماكن مختلفة في المدينة وليعملوا في تنظيف المداخن.
يستأجر السيّد روسّي روميو للعمل في تنظيف المداخن يوميًا، ويجوبان الشوارع ذهابًا وإيابًا ويصرخان في الطرقات قائلين: "مُسلّكون، مُسلّكون، من يحتاج إلى منظف مداخن؟"، حتى يخرج أحدهم من أحد البيوت الراقية ويناديهم ليقوموا بالعمل.
خلال رحلته إلى ميلانو والعيش فيها، يلتقي روميو بالصبيّ ألفريدو، ليصبحا صديقيْن لاحقًا. ويلتقيان أيضًا بالصبية الآخرين الذين جيء بهم إلى ميلانو للعمل في تنظيف المداخن، وليُشكّلوا معًا "عصابة منظفي المداخن" التي تهدف إلى حمايتهم كأفراد من المخاطر وأعمال الشغب التي تواجههم في شوارع المدينة من مجموعة صبيان أخرى تُدعى "عصابة الذئاب". وهكذا يخوض روميو وأصدقاؤه مغامراتٍ عديدة، ساعين لتحسين حالهم وللدفاع عن كرامتهم أمام العالم المظلم والمليء بالعثرات.
يُظهر المسلسل أحداثًا متنوّعة، مصحوبةً بوابلٍ من المشاعر والتساؤلات، إلى جانب أنّه يعرِض مشاكل اجتماعية عديدة وكيفية تعامُل الأبطال معها. تنتهي قصّة المسلسل بدقائق معدودة تصف حياة روميو بعد عودته إلى القرية، ونبذةً عن مستقبله كمدرِّس في القرية.
لعلّ اسم الرواية التي يقتبس المسلسل قصّتها يثير العديد من التساؤلات والنقاشات. "الأخوة السّود" هو بلا شك اسمٌ متطرفٌ لرواية تحكي قصة صبيان سويسريين ليسوا من ذوي البشرة السوداء؛ فاستعمال الوصف "أسود" في عنوان قصّة قد يوجّه توقعات القرّاء مباشرةً إلى نصّ تدور أحداثه حول أشخاصٍ من ذوي البشرة السوداء.
قد تدلُّ تسميةُ الرواية الألمانية إلى طبيعة عمل أطفال المداخن، حيث يمكننا أن نتخيّل صبيًا أبيض البشرةـ يدخُل في حجرة التدفئة ليتسلّق المدخنة ويقوم بتنظيفها، ثم يخرج من فتحة المدخنة وقد اصطبغ وجهه بالغبار فأصبح أسوَدَ. مع ذلك، لا يمكن للقارئ استنتاج هذه الدلالة إلّا بعد بداية قراءته للرواية.
لطالما ارتبطت البشرة السوداء بفترة العبوديّة والعنصريّة تجاه ذويها، وبالنضال المستمر لنيل الحرية والمساواة. في مسلسل "عهد الأصدقاء"، كما في الرواية، يكون الأطفال الفقراء عُرضًة للاستغلال والاستعباد، وذلك من خلال الاتجار بهم وبأجسادهم، ورهنهم إلى أشخاص ميسوري الحال، ليقوموا بدورهم بخدمة الأغنياء وأصحاب الألقاب النبيلة.
يُدفع الأطفال للعمل الشاقّ بعيدًا عن عائلاتهم، وهم مدرِكون تمامًا أنهم متجّهون لتقديم الخدمات بلا مقابِل، ثم يًراقبُ كلٌّ منهم مستأجِره وهو يعدّ المال ثمن استئجاره، ويشاهدُ كيف يتم استبداله ببعض القطع النقديّة. في الحلقة 7 مثلاً، يمرّ أحد الأطفال برفقة مستأجره بإحدى الجارات، فتسأله الجارة: "هل حصلتَ على ولدٍ جديد؟".
ما وراء الأوصاف المأساوية والتسميات الجريئة، قد تختبئ مقولةٌ حادّة ومباشرة، والتي تُفيد بأنّ الفقيرَ هو الأسوَدُ الجديد؛ يتم استعباده واستبداله بالمال من أجل العمل الشاق، ويبدأ هو بذاته بالنضال من أجل حريته، سواءً أكان بعدّ الأيام حتى نهاية الربيع، أم بتسلّق مدخنة طويلة قد تبدو بلا نهاية، ليصل أخيرًا إلى قمّتها ويستنشق هواءً نقيًّا، ثم ينظر إلى آفاق السّماء الزرقاء الواسعة التي يكاد يمتلكها هو وجميع الأطفال الفقراء مثلهُ.
ومن هنا طبعًا تأتي تسمية المسلسل باليابانية والانجليزية "سماءُ روميو الزرقاء"؛ لا أحد يصعدُ إلى القمم العالية كقمم المداخن سوى روميو ومن معه من الأطفال منظفي المداخن، وهم وحدهم يستطيعون رؤية السماء بهذا القُرب والاتساع. يمتلئ المسلسل بهذه المشاهد، التي تُظهر الأطفال يجلسون فوق قمم البيوت ويشاهدون السماء بعد انتهائهم من العمل. إنها لحظات قليلة من الحرية، وإنه شيءٌ واحد يشعِرهم بالتملُّك: السماء الزرقاء.
يتناول مسلسل "عهدُ الأصدقاء" العديد من المواضيع والمواقف الفكرية الفلسفية، بل ويرتكز إلى بعضها ويترجمُها إلى أحداث متعدّدة ومناقشات بين الشخصيّات. الفكرة المحضة في طرح مسألة عمل الأطفال في تنظيف المداخن كونهم صغار الحجم ويستطيعون أن يحشروا أجسادهم من مكان ضيق كالمدخنة لتنظيفها، هي عبارة عن دعوة لنقاش فلسفيّ قد جاءت به فترة ما بعدَ الحداثة، وهو مستمرٌ إلى يومنا هذا، وهو حول تعريف الطفل ومفهوم الطفولة، وبالأخص حول عمل الأطفال.
يطرح المسلسل قضايا أخرى متعلقة بمفهوم الطفولة، وهو يعرض نقاشًا فلسفيًّا تشتمل عليه بعض أحداث المسلسل. يناقش مسلسل "عهد الأصدقاء" الصراع ما بين الاستقلال والاتّكال عند الأطفال. وكما هو معروفٌ في ثقافة الأطفال العامّة، لا يتمتّع الطفل بالاستقلالية المُطلقة كما يفعل البالغون؛ فهو مرتبط بذويه غالبية الوقت، وإن كان يتيمًا، وهناك حتمًا من يعتني به ويكون وليَّ أمره، وذلك على الأقل من ناحية ارتباطه به قانونيًّا وأحقيته باتخاذ القرارات المناسبة بما يتعلق بالطفل.
يسافر أطفال المداخن إلى ميلانو للعمل هناك، وطوال فترة بقائهم في ميلانو لا يكون لأيٍّ منهم شخص بالغ يُمكن اعتباره بمثابة وليّ أمر؛ حتى لو تحدّثنا عن السيّد "روسّي" الذي يستأجر روميو للعمل ويقوم بتخصيص غرفة له في بيته الخاص، فمن الصعب جدًّا اعتباره بمثابة أب لروميو في ميلانو، وذلك لأنه يعتبره مصدرَ رزق فقط. عدم وجود هذا الشخص البالغ والمسؤول يُجبر أطفال المداخن على العيش باستقلالية تامّة، من حيثُ اهتمامهم بصحتهم وأمانهم في طرق ميلانو، فليس لهم مفرٌّ آخر: لا أحد سيهتم لأمرهم إذا لم يكن كل منهم لنفسه.
بينما تعرّض هذه الاستقلالية روميو وأصدقاءه إلى المخاطر اليوميّة وإلى التفكير والتخطيط لمواجهة مصائرهم، ينكشف الطفل المشاهد على الكثير من الميّزات للاستقلالية عند البالغين، كأن تكون مثلًا سيّد نفسك، تخرج متى تشاء من البيت وتعود متى تشاء، تُصادق من تشاء وتفعل ما يحلو لك من دون رقيبٍ أو حسيب. هذا ما يدور بعقل الطفل "أنجيليو" ابن السيد "روسّي" الذي تغريه استقلالية روميو وأصدقائه، وكان قد سئم من دلال والدته الذي كان عليه أن يدفع ثمنه بالطاعة والاستجابة.
على الرغم من أنه قد يعتبر نقاشًا عابرًا، لكنه نقاشٌ عميق وفي غاية الأهمية، فهو يحمل في طياته مفهوم الطفولة العميق. تُطرح الكثير من الأسئلة حول التضحيات التي يقدمها الأطفال المستقلّون بغير إراداتهم، مقابل التضحيات التي يقدمها أطفالٌ آخرون ليحصلوا على الاستقلال عن ذويهم. وبينما تُطرح هذه التساؤلات، وتدور حولها الكثير من الأحداث في المسلسل، يبقى النقاش مفتوحًا من دون إجابات.
تظهر الفلسفة بصور أخرى في المسلسل، منها المباشرة وغير المباشرة. مثلًا، يتميّز "ألفريدو"، أحد أبطال المسلسل وصديق روميو المُقرّب، بحبّه للقراءة، فهو يقرأ من بداية ظهوره في المسلسل، ويشجّع روميو على تعلم القراءة، حتى يقوم الآخر بالفعل بتعلمها. يقرأ ألفريدو كتبًا فلسفيّةً تشكّل وتصقل شخصيته، وتحدد نهجه وقراراته في الحياة اليومية. في أحد المشاهد، يستعير ألفريدو كتابًا للفيلسوف الفرنسي "فولتير"، ثم يذوّت في نفسه أهم ما جاء في الكتاب من مناصرة العدل والحرية والمساواة. نلاحظ مع تقدّم الأحداث كيف يتعاملُ "ألفريدو" مع جميع المواقف التي يمرّ بها، مطالبًا أهمّ عناصر الحياة التي حثّ عليها "فولتير" في أعماله.
بالإضافة إلى ذلك، يظهر أنّ "ألفريدو" متأثر جدًا بالفلسفة وتطبيقها، ونرى ذلك من خلال اجتماع الأطفال منظفي المداخن الذي يبادر له، ويقوم بتنظيمه هو وروميو، إذ يقومان بدعوة جميع منظفي المداخن الذين استُئجروا للعمل في ميلانو. يقود ألفريدو منظفي المداخن إلى مكان قديم ومظلم، ويتفقون هناك على اتحادهم وتعاونهم وتوحيد صفوفهم في مجموعة أسموها "عصابة منظفي المداخن"؛ لقد اختاروا الاسم لأنه اسم عملهم، وعينوا ألفريدو قائدًا لهم. في تلك اللحظة، يلقي ألفريدو خطابًا يقول فيه: "منظّفو المداخن متّحدون، يساعدون بعضهم بعضًا، ولا يتخلى أحدهم عن الآخرين مهما كانت الأسباب. يتقاسمون أفراحهُم وأتراحهُم، ويعملون لتحسين وضعهم. والآن، نعاهد على مساعدة بعضنا البعض في كل الأوقات…". كلّ هذا بينما ردّد الآخرون: "أشعر بأنّ قوتي تزداد، هذا مؤكّد…".
من قرأ تاريخ القرن التاسع عشر، حتمًا سيخطر بباله العديد من التساؤلات حول هذا الخطاب. هل نتحدّث هنا عن نسخة منقّحة ومبسّطة عن البيان الشيوعيّ؟ إنها حتمًا إحدى القراءات المقبولة لهذا المشهد؛ فقد يتحد عمّالٌ أطفال، تجمعهم ظروف عملهم ومحاولاتهم في تحسينها، ويقومون بالتخطيط والثورة لحقوقهم وأمنهم. قد تضيف حقيقة أن أحداث المسلسل تقع في القرن التاسع عشر وتحديدًا سنة 1875، بعد ذروة كتابة البيان الشيوعي وما لحقه من مناداةٍ لحقوق العمّال، شرعيّةً للقراءة التي تربط بين خطاب "ألفريدو" وعلاقته بفلسفة كارل ماركس الاقتصادية.
القراءات السابقة المطروحة في هذه المادة قد تحرّك مشاعر المشاهد الكبير قبل الصغير، وقد تختلف رسالة المسلسل بحسب نضج المشاهد وتجاربه مع التلفاز. مع ذلك، قد نتساءل ما هي الرسالة العامّة التي يدور حولها المسلسل، عِلمًا بأنه مخصّص للأطفال، وما هي العِبر التي يأمل المسلسل أن يتعلمها ويقتدي بها المشاهد.
في غرفةٍ مريحةٍ ودافئة، وفي منزلٍ يمتلئ برائحة الطعام اللذيذ الذي يتم تحضيره، قد يجلس الطفل المشاهد أمامَ التلفاز، مُحاطًا بجميع وسائل الراحة، والأهم من ذلك أنه محاطٌ بأشخاصٍ يهتمون به ويسهرون على راحته، ويكفيه من الأمر أن سقفًا واحدًا يجمعهم. كل ذلك بينما يشاهد مسلسل "عهد الأصدقاء"، حيث أُجبر أطفال بمثل عمره على الانتقال للعيش في مكانٍ بعيد وغريب، يخلو من الدفء والمحبّة، ومع ذلك يكافحون لحماية أنفسهم وليفوا بوعودهم، يتصرفون بشجاعةٍ في شتى المواقف، ويعلمون أن عليهم التعلم وقراءة الكتب، ويسعون جاهدًا لتحقيق مصائرهم.
تجربتي المتواضعة مع هذا المسلسل في الصغر كانت ملهمة جدًّا، كنت أقول لنفسي دائما: "إذا كان روميو وأصدقاؤه يفعلون كل هذا مع سوء الظروف، ما الذي ينقصني لأنجح وأتميّز وأكون سعيدة؟". في مشاهدة المسلسل دفعةٌ من الإلهام، ودعوةٌ إلى التواضع وإحسان التصرّف، والأهم من كلّ ذلك أنها أيضًا تذكيرٌ بالنعم، وتحطيم ما هو مفهومٌ ضمنيًا، كالعائلة ولقمةُ العيش والصداقة والكرامة.
للتلخيص، مسلسل عهد الأصدقاء هو بنظري كنز للطفولة، ومادة رائعة لبحث ثقافة الأطفال. قد يتوجب التعمق أكثر في المسلسل والتطرق إلى جوانب أخرى مثيرة للاهتمام لم تتطرّق لها المادة الحالية، وهذه بلا شك دعوة للبحث أكثر وللاستمتاع بالمضامين العظيمة التي اشتملت عليها ثقافة الأطفال في الفترة التي خرج خلالها المسلسل إلى النور.
الترجمة العربية
الإخوة السود
تأليف: ليزا تتسنر
ترجمة: خليل الشيخ
الناشر: مشروع كلمة
في عام 2013، صدر فيلم ألماني يعرض أحداث الرواية
Die schwarzen Brüder
- التاريخ: 01/02/2021
- كلمات مفتاحية: مسلسلات كرتونية